الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أُثْبِتُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ؛ قِيلَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَثْبَتَّهُ مَعَ عَدَمِ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَصْلًا مَعَ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ فَجَمَعْت بَيْنَ شَيْئَيْنِ: بَيْنَ أَنَّ مِمَّا أَثْبَتَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَلَ مِنْ خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنَّك حَرَّفْت كَلَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قُلْت: الَّذِي يَنْزِلُ مَلَكٌ. قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:مِنْهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَزَالُ تَنْزِلُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ». وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ. فَإِذَا مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى يُنَادُونَ: هَلُمُّوا إلَى حَاجَتِكُمْ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ- وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ-: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ فَيَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَك وَيُكَبِّرُونَك وَيَحْمَدُونَك وَيُمَجِّدُونَك». وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ: «إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ؛ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا أَوْ صَعِدُوا إلَى السَّمَاءِ. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ- وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ-: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادِك فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَك وَيُكَبِّرُونَك ويهللونك وَيَحْمَدُونَك وَيَسْأَلُونَك». الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: «مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟». وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهَا مَلَكٌ عَنْ اللَّهِ بَلْ الَّذِي يَقُولُ الْمَلَكُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ» وَذُكِرَ فِي الْبُغْضِ مِثْلُ ذَلِكَ. فَالْمَلَكُ إذَا نَادَى عَنْ اللَّهِ لَا يَتَكَلَّمُ بِصِيغَةِ الْمُخَاطِبِ؛ بَلْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا أَوْ قَالَ كَذَا. وَهَكَذَا إذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ مُنَادِيًا يُنَادِي فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَرَسَمَ بِهَذَا لَا يَقُولُ أَمَرْت بِكَذَا وَنَهَيْت عَنْ كَذَا بَلْ لَوْ قَالَ ذَلِكَ بُودِرَ إلَى عُقُوبَتِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الْقَدِيمَةِ للجهمية فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ أَمَرَ مَلَكًا فَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَوْ كَلَّمَهُ مَلَكٌ لَمْ يَقُلْ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} بَلْ كَانَ يَقُولُ كَمَا قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}. فَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ تَقُولُ كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} وَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك بِكَذَا وَيَقُولُ كَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَلَا يَقُولَ «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» وَلَا يَقُولَ «لَا يَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي» كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا وَسَنَدُهُمَا صَحِيحٌ أَنَّهُ يَقُولُ: «لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي». وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبْطِلُ حُجَّةَ بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِي فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا فَيُنَادِي فَإِنَّ هَذَا إنْ كَانَ ثَابِتًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّبَّ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَأْمُرُ مُنَادِيًا بِذَلِكَ؛ لَا أَنَّ الْمُنَادِيَ يَقُولُ «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟» وَمَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُنَادِيَ يَقُولُ ذَلِكَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّهُ- مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ اللَّفْظِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ- فَاسِدٌ فِي الْمَعْقُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ كَذِبِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ كَمَا رَوَى بَعْضُهُمْ يُنْزِلُ بِالضَّمِّ وَكَمَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى. وَإِنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِنُزُولِ رَحْمَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قِيلَ: الرَّحْمَةُ الَّتِي تُثْبِتُهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً قَائِمَةً فِي غَيْرِهَا.فَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا وَقَدْ نَزَلَتْ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَقُولَ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْمَلَكُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ فَهِيَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا؛ بَلْ لابد لَهَا مِنْ مَحَلٍّ. ثُمَّ لَا يُمْكِنُ الصِّفَةُ أَنْ تَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ وَلَا مَحَلَّهَا. ثُمَّ إذَا نَزَلَتْ الرَّحْمَةُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَمْ تَنْزِلْ إلَيْنَا فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لَنَا فِي ذَلِكَ؟ وَإِنْ قَالَ: بَلْ الرَّحْمَةُ مَا يُنْزِلُهُ عَلَى قُلُوبِ قُوَّامِ اللَّيْلِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ وَالْعِبَادَةِ وَطِيبِ الدُّعَاءِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَزِيدِ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَذِكْرِهِ وَتَجَلِّيهِ لِقُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ يَعْرِفُهُ قُوَّامُ اللَّيْلِ قِيلَ لَهُ: حُصُولُ هَذَا فِي الْقُلُوبِ حَقٌّ لَكِنَّ هَذَا يَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ إلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ لَا يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَصْعَدُ بَعْدَ نُزُولِهِ وَهَذَا الَّذِي يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ يَبْقَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لَكِنَّ هَذَا النُّورَ وَالْبَرَكَةَ وَالرَّحْمَةَ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ هِيَ مِنْ آثَارِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ نُزُولِهِ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ «بِالنُّزُولِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ» فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ وَبَعْضُهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضاحين مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ الْمَلَائِكَةَ وَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا» فَوُصِفَ أَنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِالْحَجِيجِ فَيَقُولُ اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَجِيجَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالنُّورِ وَالْبَرَكَةِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الَّذِي يَدْنُو إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِالْحَجِيجِ. وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ: إنَّمَا يُثْبِتُونَ مَخْلُوقًا بِلَا خَالِقٍ وَأَثَرًا بِلَا مُؤَثِّرٍ وَمَفْعُولًا بِلَا فَاعِلٍ وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ أُصُولِهِمْ وَهَذَا مِنْ فُرُوعِ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة. وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُ: وَصْفُ نَفْسِهِ بِالنُّزُولِ كَوَصْفِهِ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَبِأَنَّهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَبِأَنَّهُ نَادَى مُوسَى وَنَاجَاهُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَبِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}. وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إتْيَانِ الرَّبِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ إتْيَانُهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ السَّلَفُ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْحَدِيثَ فَبَيَّنُوا لَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ يُصَدِّقُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا احْتَجَّ بِهِ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه عَلَى بَعْضِ الْجَهْمِيَّة بِحَضْرَةِ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: أَمِيرِ خُرَاسَانَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرباطي: حَضَرْت مَجْلِسَ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ذَاتَ يَوْمٍ وَحَضَرَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه فَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النُّزُولِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ قُوَّادِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ قَالَ أَثْبَتَهُ فَوْقُ حَتَّى أَصِفَ لَك النُّزُولَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَثْبَتَهُ فَوْقُ فَقَالَ لَهُ إسْحَاقُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فَقَالَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَقَالَ إسْحَاقُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَمَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَمْنَعُهُ الْيَوْمَ.ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إذَا نَزَلَ هَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ لَا يَخْلُو؟ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ وَعَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَطَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَقَالَ: رَاوِيهَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا قَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفريابي ثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ المقدمي ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إسْمَاعِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» يَتَحَوَّلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ؟ فَسَكَتَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الأردبيلي حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إسْمَاعِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ «يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» أَيَتَحَوَّلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ؟ فَسَكَتَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّةَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ ثَنَا أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ: قَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه: دَخَلْت عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرْوُونَهَا قُلْت: أَيُّ شَيْءٍ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ؟ قَالَ: تَرْوُونَ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قُلْت: نَعَمْ رَوَاهَا الثِّقَاتُ الَّذِينَ يَرْوُونَ الْأَحْكَامَ. قَالَ: أَيَنْزِلُ وَيَدَعُ عَرْشَهُ؟ قَالَ: فَقُلْت: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ الْعَرْشُ مِنْهُ. قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: وَلِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا.وَقَدْ رَوَاهَا اللكائي أَيْضًا بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ وَاللَّفْظُ مُخَالِفٌ لِهَذَا. وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَصَحُّ وَهَذِهِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا حِكَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ رُوَاتُهُمَا أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ. فَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ فَأَثْبَتَ قُرْبَهُ إلَى خَلْقِهِ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ- وَهُوَ مِنْ خِيَارِ مَنْ وَلِيَ الْأَمْرَ بِخُرَاسَانَ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْزِلُ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ فَأَقَرَّهُ الْإِمَامُ إسْحَاقُ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَقَالَ لَهُ: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ؟ فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ: نَعَمْ فَقَالَ لَهُ إسْحَاقُ: لِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا؟ يَقُولُ: فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نُزُولِهِ خُلُوُّ الْعَرْشِ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَى النُّزُولِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُوُّ الْعَرْشِ وَكَانَ هَذَا أَهْوَنَ مِنْ اعْتِرَاضِ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ فَيُنْكِرُ هَذَا وَهَذَا. وَنَظِيرُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي السُّنَّةِ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ يَعْنِي الْعَبَّادِيَّ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْعَثِ يَقُولُ: سَمِعْت الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إذَا قَالَ الجهمي أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. أَرَادَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُخَالَفَةَ الجهمي الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إتْيَانٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا نُزُولٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ. فَقَالَ الْفُضَيْل: إذَا قَالَ لَك الجهمي: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا شَاءَ. فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِالرَّبِّ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ الَّتِي يَشَاؤُهَا لَمْ يَرُدَّ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ الأوزاعي وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي حَدِيثِ النُّزُولِ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. قَالَ اللالكائي: حَدَّثَنَا الْمُسَيَّرُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْحُسَيْنِ: ثَنَا أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ قَالَ: سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: إذَا سَمِعْت الجهمي يَقُولُ: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَنْزِلُ؛ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ: فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَنْفِي قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ- كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمْ- يُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ مِنْ دُونِ أَنْ يَقُومَ بِهِ هُوَ فِعْلٌ أَصْلًا. وَهَذَا أَوْجَبَهُ أَصْلَانِ لَهُمْ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ، فَهُمْ يُفَسِّرُونَ أَفْعَالَهُ الْمُتَعَدِّيَةَ مِثْلَ قَوْله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَأَمْثَالِهِ: إنَّ ذَلِكَ وُجِدَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ قَامَ بِذَاتِهِ بَلْ حَالُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ وَبَعْدَ مَا خَلَقَ سَوَاءٌ لَمْ يَتَجَدَّدْ عِنْدَهُمْ إلَّا إضَافَةٌ وَنِسْبَةٌ وَهِيَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ؛ لَا وُجُودِيٌّ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَيَرَى أَعْمَالَهُمْ وَفِي كَوْنِهِ كَلَّمَ مُوسَى وَغَيْرَهُ وَكَوْنِهِ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ أَوْ نَسَخَ مِنْهُ مَا نَسَخَ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ عِنْدَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ نِسْبَةِ وَإضَافَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَهِيَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَا وُجُودِيٌّ. وَهَكَذَا يَقُولُونَ: فِي اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ إذَا قَالُوا: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَيُسَمِّي ابْنُ عَقِيلٍ هَذِهِ النِّسْبَةَ الْأَحْوَالَ؛ وَلَعَلَّهُ يُشَبِّهُهَا بِالْأَحْوَالِ الَّتِي يُثْبِتُهَا مَنْ يُثْبِتُهَا مِنْ النُّظَّارِ وَيَقُولُونَ هِيَ لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْدُومَةٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ أَبُو هَاشِمٍ وَالْقَاضِيَانِ: أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ خَالَفُوهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَأَثْبَتُوا لَهُ تَعَالَى فِعْلًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَخَلْقًا غَيْرَ الْمَخْلُوقِ- وَيُسَمَّى التَّكْوِينَ- وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ قُدَمَاءُ الْكُلَّابِيَة كَمَا ذَكَرَهُ الثَّقَفِيُّ والضبعي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَة فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي كَتَبُوهَا وَقَرَءُوهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة لَمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ. وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ البغوي فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. والْأَصْلُ الثَّانِي: نَفْيُهُمْ أَنْ تَقُومَ بِهِ أُمُورٌ تَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ حُلُولَ الْحَوَادِثِ. فَلَمَّا كَانُوا نفاة لِهَذَا امْتَنَعَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ لَا لَازِمٌ وَلَا مُتَعَدٍّ؛ لَا نُزُولٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا خَلْقٌ وَلَا إحْيَاءٌ وَلَا إمَاتَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ. فَلِهَذَا فَسَّرُوا قَوْلَ السَّلَفِ بِالنُّزُولِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ حُصُولُ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ؛ لَكِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ.
|